السبت، 7 نوفمبر 2015

الطائرة الماليزية «إم إتش 370» غرقت في محيط التوجس الأمني



ما إن اختفت رحلة الطائرة الماليزية إم إتش 370 من على شاشات الرادارات الجوية في 8 مارس، حتى بدأت كوالالمبور البحث عنها، وتوالت جهود الدول تباعا في استطلاع مكانها حتى وصل عددها إلى نحو 25. وبلغ عدد القطع التي ساهمت بها الأطراف المختلفة، 100 طائرة وسفينة وغواصة على الأقل، بينما أعادت بكين توجيه 10 أقمار صناعية مخصصة للطقس، حتى أن التلفزيون الصيني توقف عن بث النشرات الجوية.
وقد تبدو هذه الجهود في ظاهرها نبيلة جدا، لكن كل هذا التعاون كان قائما على عدم التشارك في المعلومات، لأن الرادارات العسكرية لأكثر من دولة آسيوية كانت تعلم منذ البداية أن الطائرة لم تسقط شرق ماليزيا ولا في مضيق ملقة، وأنها غيرت اتجاهها إلى الغرب نحو المحيط الهندي. إلا أنه لم يتم إعلام أطقم البحث المدنية بهذه المعلومة، ليبتلع الغرقى محيط شاسع تسكن أعماقه أسماك القرش.
وعندما واجهت ماليزيا اتهامات بأنها لم تفرج عن بيانات الأقمار الصناعية والرادارات العسكرية في بداية الكارثة، قال وزير الدفاع إن ماليزيا أرادت أن تجنب أمنها القومي الخطر، وأن تترك القطاع المدني يعثر على الطائرة، حسبما نقلت عنه شبكة «إيه بي سي» الإخبارية الأميركية.


وكان مسؤول أميركي رفض كشف هويته لحساسية القضية قال إن مسار وارتفاع الرحلة شهد تغيرات كبيرة، فقد هبطت من ارتفاع 35 ألف قدم إلى 12 ألف قدم قبل اختفائها من الرادار، مضيفا أن رادارات الجيش الماليزي رصدت صعود الطائرة إلى ارتفاع 45 ألف قدم بعد اختفائها عن أجهزة الرادار المدنية، ثم هبوطها إلى 23 ألف قدم، قبل أن تعاود الارتفاع مجددا.
ولأن هذه التغييرات لا يمكن أن تحدث دون الرجوع إلى مركز التحكم في الطيران، فقد رجح بعض المحللين أن يكون هذا نتيجة صراع داخل مقصورة القيادة، لكنه يظل مجرد تكهن. وأيا كان السبب، فإن هذا التغييرات كانت لابد أن تثير العديد من إشارات التحذير لتسرع الطائرات العسكرية بالتحليق قرب الطائرة، وهو ما يعد إجراء قياسيا منذ أحداث 11 سبتمبر.
كما رصدت رادارات تايلاند العسكرية هي الأخرى الطائرة وهي تغير اتجاهها. وبررت موقفها علانية في الثامن عشر من مارس بأنها أبلغت ماليزيا سرا أنها رصدت الطائرة تغير اتجاهها، وأنها أرسلت هذه الرسالة ثلاث مرات إلى كوالالمبور، ولما لم تتلق ردا توقفت عن البحث في شرق ماليزيا. وهكذا انتظرت تايلاند 10 أيام كاملة قبل أن تعلن أن راداراتها العسكرية رصدت الطائرة تغير اتجاهها.
أما المفاجأة الكبرى، فكانت استراليا والولايات المتحدة، حيث توجد قاعدة «رادار خارق» خارج منطقة «أليس سبرينجز» الأسترالية. ويبلغ مدى هذا الرادار 37 ألف كيلومتر مربع ويستطيع رصد الأهداف الطائرة والمتحركة على سطح الماء. ويمكنه أن يحدد، على سبيل المثال، نوع طائرة وهي في طريقها للإقلاع من مطار شانجي في سنغافورة. وعندما سألت قناة «بلومبرج» السلطات الأسترالية إذا كان هذا الرادار التقط أي بيانات تستطيع أن تساعد في عملية البحث، رفض متحدث باسم وزارة الدفاع التعليق.
وعلى بعد 18 كيلومترا في «أليس سبرينجز» في وسط استراليا، تقع محطة «باين جاب» للرصد والتتبع بالأقمار الصناعية. وهي قاعدة عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وأستراليا، تستطيع تتبع موجات الميكرو ويف، للتجسس على المكالمات الدولية على سبيل المثال، ولكن لا تعليق، على الأقل في العلن. ولكن استراليا رجحت سقوط الطائرة في المحيط الهندي ولم تذكر من أين أتت بهذا الترجيح، لكن ليس في وقت مبكر بشكل يحسب أنه مساهمة في إنقاذ الضحايا.
ولم تكن الهواجس الأمنية لتلك الدول فقط سببا في إعاقة القطاع المدني في البحث، فعندما عرضت الصين إرسال 4 سفن عسكرية للبحث رفضت الهند ذلك بقلق قائلة إنها لن تسمح بذلك لأنها لا تريد للسفن الصينية الاقتراب من جزيرتي «أندامان» و«نكوبار»، اللتين توجد فيهما قاعدة عسكرية هندية.
وهناك ما يكفي من المشاكل الحدودية بين الهند والصين، التي لا يسكنها إلا حجم التبادل التجاري بين البلدين. وهكذا غرقت الطائرة الماليزية في بحر من التوجسات الأمنية، وإذا كان في نفوس أهل الضحايا بعض الأمل في العثور على أحياء، يكون هذا الأمل قد مات تماما، لأن الرادارات العسكرية لا تفصح عن أسرارها.
في الوقت نفسه، يبدو أن مصير «إم إتش 370» يرفض نزع عباءة الغموض عن الكارثة الجوية، لأن عمليات البحث الدولية لم تسفر عن العثور على حطام يعود بالفعل إلى الطائرة حتى الآن في المكان الذي قيل إنها تحطمت فيه قبالة الساحل الغربي لاستراليا، والآمال المعلقة على الصندوقين الأسودين في معرفة ما حدث على الطائرة أكبر مما ينبغي.
فعلى الرغم من أنه يتم تزويد جميع الطائرات المدنية بصندوقين أسودين، أحدهما يسجل جميع إحداثيات الرحلة كالسرعة والارتفاع وغيرهما، والثاني يسجل جميع الأصوات في قمرة القيادة بما في ذلك المحادثات والأصوات والبيانات. إلا أن صندوق التسجيلات لا يحتفظ سوى بآخر ساعتين من المحادثات في قمرة القيادة.
وبالتالي، فإن كانت هناك أصوات أو بيانات قد تكشف سبب تغيير الطائرة لاتجاهها بين ماليزيا وفيتنام، فإنها للأسف ستكون قد محيت تلقائياً، وسيظل ما حدث فوق خليج تايلاند سرا. وكأن من غير اتجاه الطائرة كان حريصا أن تسير لأطول فترة ممكنة قبل أن تسقط بعد نفاد الوقود، رغم أن هذه الفرضية لا تزال غير مؤكدة حتى الآن.
وفي حديث إلى تلفزيون «بي بي سي» قال كريس ياتس أحد أهم خبراء الطيران في العالم «ليس لدينا حتى الآن أي دليل عن الحالة الذهنية للطيار أو مساعده، وليس لدينا دليل على دخول شخص ما قمرة القيادة للسيطرة على الطائرة، وعلى وجه اليقين ليس لدينا مسؤول عن سقوط الطائرة منذ بداية الأزمة»، مؤكداً أنه سر لا يشبه أي لغز آخر. لأن ما يبدو اختطافا قد يكون عطلاً أدى لتحييد قدرات طاقم الطائرة، فتسلم الطيار الآلي مهمة قيادة الطائرة حتى النهاية، في واحدة من أطول الرحلات حتى الموت بالنسبة للركاب. لأن «بوينج 777» مصممة في حالة نفاد الوقود بالهبوط 10 أقدام في الثانية، أي أنها لو كانت تطير على ارتفاع 41 ألفاً فستستغرق 71 دقيقة قبل أن تصطدم بسطح الماء.
وفي هذه المرحلة يعتبر تصريح الخبير البريطاني في محله. ومن غير الواضح إن كانت هذه صدفة، لكن أظهر الدين عبد الرحمن رئيس هيئة الطيران المدني الماليزية قال بعد 48 ساعة فقط من سقوط الطائرة إن الحادث هو «طلسم غير مسبوق في تاريخ الطيران»، وعلى هذا المنوال استمرت تغطية الحدث.
ويبدو أن الإعلان الماليزي الأخير عن سقوط الطائرة في المحيط الهندي لم يلق رواجا على المستوى الرسمي في بكين، حيث طالبت الصين بتقديم أدلة مادية، وهو ما قد يكون أمرا بالغ الصعوبة. لأن الموج قد يجرف الحطام مئات الكيلومترات بعيداً عن مكان السقوط. وفي هذه المنطقة من المحيط ومع أقل من 14 يوماً قبل فراغ بطاريتي الصندوقين الأسودين، فإن احتمالات بقاء هذا اللغز بدون حل مرتفعة جداً. وإذا كانت عملية العثور على حطام الطائرة لم تسفر عن شيء حتى الآن، فهل سيكون تحديد مكان الصندوقين شيئا يمكن وصفه بأقل من «مهمة مستحيلة»؟
وقد أرسلت الولايات المتحدة بالفعل نظاما لالتقاط إشارة الصندوقين، لكن المسؤول عن مجموعة عمليات البحث بحرا عن الرحلة «إيه إف 447» بين ريو وباريس التي تحطمت في المحيط الأطلسي عام 2009 قال إنه إذا تم العثور على الصندوقين فإنه سيكون «من باب الصدفة»، لا أكثر ولا أقل. ويبدو أن الصدفة ترفض اللعب مع أطراف البحث في هذه الكارثة حتى الآن. فقد أشار المحقق السابق إلى أنه في حالة الرحلة بين ريو وباريس، لم يتم رصد إشارة الصندوقين الأسودين. وتبين لاحقا أن أحدهما اقتلع عند تحطم الطائرة، وعثر على صندوق الثاني معطلا بعد 23 شهرا من الكارثة، على عمق 3900 متر تحت سطح الماء.

من الذي وضع بيض «فري سكيل» في سلة واحدة بالهواء؟
لم يحدث في تاريخ الطيران المدني أن اشتركت 25 دولة في البحث عن طائرة مفقودة مثل الطائرة الماليزية التي اختفت فجأة من على شاشات الرادار في الرحلة «ام اتش 370» المتجهة من كولالمبور إلى بكين.. ولكن لماذا؟ السر يكمن في قائمة الركاب، لأنها وحدها التي تبرر هدير محركات السفن والغواصات، وأزيز إشارات الأقمار الصناعية، وعمل الأجهزة الاستخباراتية بحثا عن الطائرة، التي كان من بين ركابها 20 موظفاً من شركة «فري سكيل». وهي شركة تعمل في التكنولوجيات المتقدمة، بدأت كشركة مختصة بالعمل في موجات الراديو، واستخدمت تكنولوجياتها للاتصال مع رواد الفضاء في الهبوط على سطح القمر للمرة الأولى. بعد ذلك توسعت أنشطتها وصارت تعمل في أشباه الموصلات والمعالجات الصغيرة وتكنولوجيات التتبع وتقنيات أخرى. وكانت الشركة أحد أذرع شركة موتورولا حتى العام الماضي، الذي حققت فيه أرباحاً بلغت 4,8 مليار دولار. ورفضت «فري سكيل»، التي يقع مقرها في مدينة أوستن بولاية تكساس الأميركية، الإفصاح عن مناصب موظفيها الذين راحوا ضحية الرحلة المشؤومة، ولا عن سبب رحلتهم إلى الصين، أو ما إذا كانوا يحملون عتادا تكنولوجيا متقدما، بحكم أن «فري سكيل» أحد أكبر الشركات المتعاقدة مع الجيش الأميركي. لكن ما تناولته تقارير الإعلامية الأميركية عن الموظفين الـ25 أنهم كانوا يعملون في مشروعات مشتركة مع أكبر 5 شركات سلاح أميركية وشركة «إنتل» الشهيرة للمعالجات.
أما الصينيين الذين كانوا على متن الطائرة فكان بعضهم يمثل شركات رفض الكونجرس الأميركي السماح لها بالعمل في الولايات المتحدة بسبب الخوف من قيامها بأنشطة تجسس، معتبرا أنها تمثل تهديداً للأمن القومي الأميركي. وكان من بين هؤلاء الصينيين مدير تنفيذي في شركة «تشينا تيليكوم»، ومهندس من فريق تركيب وصيانة معدات الاتصالات لشركة «زد تي إي» التي كانت من أكبر الشركات المتعاقدة مع الجيش الأميركي. ثم طردت من الولايات المتحدة بعد أن هربت برامج وعتاد من شركات «أوراكل» و«مايكروسوفت» و«سيسكو» إلى إيران. وفي عام 2010 منعت الهند استيراد عتاد الشبكات من «زد تي إي» خوفاً من أنها تخفي في برامج تشغيل العتاد برامجاً للتجسس. كما استقل الطائرة المفقودة أيضاً موظفان من شركة «هاواوي» الشهيرة للاتصالات. كما فقدت شركة «أي بي إم» أحد مدراءها التنفيذيين الذي كان على وشك استلام موقعه مسؤولًا عن الشرق الأدنى في تلك الحادثة. السؤال الذي يجدر البحث عنه هو لماذا وكيف تضع شركات عدة بهذا الحجم كل هذا البيض على طائرة واحدة وتودعهم متمنية لهم السلامة؟ وهذه النوعية من الشركات تحديداً لديها إدارات للأمن ومكافحة التجسس الصناعي لا يفوتها مثل هذه التفصيلة، التي هي من أساسيات العمل في قطاع ترتكب فيه جرائم من أجل المعلومات. ولكن مع قائمة الركاب الهامة وهذا الخطأ الذي لا يغتفر تفسران بالتالي سبب اشتراك «إنتربول» و«سي آي إيه» و«إف بي آي» و«ناسا» والمخابرات العسكرية الأميركية في التحقيقات، وغيرهم.
(المصدر)
مصطفى علي درويش